الوفاء بـ العقود في الإسلام من المبادئ الأساسية التي يقوم عليها ديننا الإسلامي، وهو ضرورة حياتية تضمن استقرار المعاملات بين الناس وتحقق الأمان في حياتهم، لذلك جاء الأمر الإلهي واضحًا وصريحًا في كتاب الله عز وجل، حيث قال سبحانه في بداية سورة المائدة: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ”، لكن ما معنى العقود؟ ومن هم أطرافها؟ وكيف يتحقق الوفاء بها؟ وما هو الجزاء الذي يناله من يلتزم بها أو يتخلى عنها؟ هذا ما سنستعرضه لك في المقال القادم.
تعريف العقود في الإسلام
العقود في الإسلام ليست مجرد اتفاقيات مكتوبة أو شفهية بين طرفين، بل هي كل التزامات الإنسان أمام الله وأمام الناس، تشمل العقود العهود التي يبرمها الإنسان في المعاملات التجارية، والزواج، والشراكات، والعمل، وغيرها بل إنها تمتد لتشمل الالتزامات الأخلاقية والدينية، كعهد المسلم على طاعة الله والتزامه بأداء عباداته.
أما أطراف العقود فهم كل من تجمعهم هذه الالتزامات، سواء كانوا أفرادًا، كالتاجر والمشتري، أو مؤسسات، كالشركات والدول، بل وحتى علاقة الإنسان بخالقه تدخل ضمن مفهوم العقود، فالعبادات، كالصلاة والزكاة والصوم، تعد عقودًا بين العبد وربه يجب عليه الوفاء بها.
لكن كيف يتحقق الوفاء بالعقود في الإسلام؟ الوفاء يتحقق بالالتزام التام بما تم الاتفاق عليه، دون غش أو تحايل أو تسويف، فالوفاء ليس مجرد أداء ظاهر، بل هو صدق في النية وإخلاص في التنفيذ، فالتاجر الذي يبيع بصدق ويزن بالعدل يوفي بعقده، والزوج الذي يلتزم بحقوق زوجته يوفي بعقده، والمؤمن الذي يلتزم بصلاته وأماناته يوفي بعقده مع الله أولًا ومع الناس ثانيًا.
اقرأ أيضًا: الشروط الفقهية للعبادات
شروط العقد الصحيح في الإسلام
العقود في الإسلام هي وسيلة تنظيمية تهدف إلى تحقيق العدالة وضبط العلاقات والمعاملات بين الأطراف، ولكي يكون العقد صحيحًا ومقبولًا شرعًا، وضع الفقه الإسلامي شروطًا محددة للإيجاب والقبول، وللمعقود عليه، وللثمن، نوضحها فيما يلي:
الإيجاب والقبول
الإيجاب والقبول هما ركنان أساسيان لانعقاد العقود في الإسلام، وهما يعبران عن إرادة الطرفين في إنشاء الالتزام المتفق عليه، والإيجاب هو ما يصدر من الطرف الأول مالك الشيء أو المؤجرة بقصد عرض المعاملة.
أما القبول فهو ما يصدر من الطرف الثاني المشتري أو المستأجر بقصد الموافقة على الإيجاب، ومن المهم توافر شروط في الإيجاب والقبول مثل أن تكون الصيغة بصيغة الماضي، مثل: “بعتك” و”اشتريت”، لأن هذه الصيغة تدل على الجزم والانعقاد الفوري، ويجوز استخدام صيغة المضارع بشرط أن تكون مقترنة بالنية الواضحة، لأن المضارع قد يدل على الحال أو المستقبل.
يشترط أيضًا أن يتم الإيجاب والقبول في مجلس واحد دون انقطاع، ومن الضروري يجب أن يكون الطرفان بالغان، عاقلان، راشدان، ومؤهلان شرعًا للتصرف، كما ولا يجوز أن يكون نفس الشخص وكيلًا للطرفين في العقد الواحد لتجنب تضارب المصالح.
المعقود عليه
محل العقد، سواء كان مالًا، عينًا، منفعة، أو عملًا، يخضع لشروط محددة لضمان صحة العقد أهمها أنه لا يجوز أن يكون محل العقد شيئًا معدومًا أو مستحيل الوجود عند إنشاء العقد، مثل بيع جنين الناقة قبل ولادته أو بيع الزرع قبل ظهوره، ولا يسمح بالتعاقد على شيء محرم شرعًا، كبيع الخمر، أو لحم الخنزير، أو أي سلعة محظورة، ويشترط أن يكون المعقود عليه في مقدور البائع تسليمه للمشتري وقت التعاقد مثلًا لا يصح بيع طائر في الشجرة إذا لم يكن بالإمكان القبض عليه، ومن المهم أن يكون محل العقد معلومًا للطرفين بشكل دقيق لتجنب النزاعات.
شروط الثمن
الثمن هو العنصر المكمل في العقود في الإسلام ، وله شروط خاصة لضمان وضوح الاتفاق، بداية أن يكون معلومًا للطرفين من حيث الجنس من العملة النقدية أو السلعة مقابل السلعة، والنوع ريالات سعودية أو دولارات أمريكية مثلًا، والصفة سواء كان نقدًا أو بالتقسيط، ويجب تحديد الثمن بدقة دون أي غموض قد يؤدي إلى خلاف مستقبلي، تحديد شروط الثمن يحميك ويحمي الطرف الأخر من أي ملامسات في العقد.
اقرأ أيضًا: أحكام الطهارة في فقه الشافعية
أنواع العقود في الإسلام
تنقسم العقود في الإسلام إلى نوعين أساسين، وهما عقود ومواثيق الفرد وربه، وعقود ومواثيق بين الناس، ولقد أوضح القرآن أهمية الوفاء بتلك العقود سواء مع الله أو مع الناس حيث قال الله عز وجل {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ ولا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًاۚ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} ولم يشدد القرآن فقط على الوفاء بالعهد بل كان للأحاديث دورها أيضًا حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَه)، وإليك فيما يلي أنواع تلك العقود:
العقود والمواثيق مع الله
العلاقة بين الإنسان وربه تقوم على عقود ومواثيق عظيمة، تبين حقوق الله على عباده وواجباتهم تجاهه، وهذه العقود تأخذ أشكالًا متعددة يمكن تلخيصها فيما يلي:
- ميثاق توحيد الله: توحيد الله هو أول وأهم المواثيق، حيث يُفرد الله بالعبادة دون شريك، كما قال تعالى: “وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا”هذا الميثاق أُخذ على البشر جميعًا منذ كانوا ذرية في ظهر آدم، كما ورد في قوله تعالى: “أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا”.
- عقد إقامة الشريعة: الله أمرنا باتباع الشريعة والالتزام بأركان الإسلام: الصلاة، الزكاة، الصيام، الحج، مع الأوامر الأخرى كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: “ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا”.
- الطاعة في الأوامر والنواهي: الالتزام بما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه، وعدم نسبة الحلال أو الحرام إلى غير الله، كما قال تعالى: “وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ” ويشمل ذلك الوفاء بالعهود والنذور، لقوله: “وَلَٰكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ”.
عقود ومواثيق بين الناس
تمثل العقود والمواثيق بين البشر أساس التعاملات في المجتمع، وتشمل الالتزامات التي تنظم الحقوق والواجبات بين الأفراد وفقًا لما أقره الشرع الحنيف، ومن أبرز هذه العقود:
- الراعي والرعية: يقوم هذا الميثاق على التزام الحاكم بإقامة دين الله، الحكم بالعدل، دفع الظلم، ورعاية مصالح الدين والدنيا للرعية، في المقابل يجب على الرعية طاعته في غير معصية، مناصحته، ومعاونته على الخير، تطبيقًا لقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}.
- عقود النكاح: يعرف الزواج في الإسلام بـ”الميثاق الغليظ”، وهو التزام كل طرف بحقوق الآخر من حسن المعاشرة، إعفاف النفس، والتعاون على تربية الأولاد والحياة وفق المعروف، وإن استحالت العشرة، فالشرع يتيح الطلاق كحل.
- البيع والشراء: تعتمد هذه العقود على الصدق والأمانة من الطرفين، حيث يحرم إخفاء العيوب أو الخيانة، النبي صلى الله عليه وسلم قال: “فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا”.
- عقود الشراكة: تقوم على الوضوح، الكتابة، والوفاء بالاتفاقات، وقد ورد في الأثر القدسي: “أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ”، مما يبرز أهمية الأمانة وتجنب الغدر.
- عقود الإجارة: تشمل التعاقدات مع الأجير أو العامل، ويلزم فيها الوفاء بالأجر المتفق عليه دون مماطلة أو ظلم، النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ”، وهو تأكيد على سرعة الوفاء بالحقوق.
اقرأ أيضًا: حكم التيمم في المذاهب الفقهية المختلفة
جزاء من لا يفي بالعهود
الوفاء بـ العقود في الإسلام من أعظم الواجبات التي أكد عليها القرآن الكريم والسنة النبوية، لما له من أثر عظيم في صلاح الفرد والمجتمع، وقد جاءت نصوص عديدة تحث على الوفاء بالعهد وتوضح خطورة نقضه، حتى أن بعض صور نقض العهد تعد من الكبائر التي قد تؤدي إلى الكفر.
كما حدث مع بني إسرائيل حين نقضوا عهدهم مع الله قال تعالى: “وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً”، وأثنى على المؤمنين بقوله: “الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ”.
نقض العهد من صفات المنافقين، كما بيّن النبي صلى الله عليه وسلم: “أربع من كنّ فيه كان منافقًا خالصًا: من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر” كما أن الغدر يجلب اللعنات ويحرّم صاحبه من رحمة الله، الوفاء بالعقود ليس مجرد فضيلة، بل هو واجب شرعي عظيم يحفظ الدين والدنيا، ونقضه يؤدي إلى أضرار جسيمة في الدنيا وعذاب في الآخرة.
تقوم العقود في الإسلام تقوم على مبادئ العدالة والشفافية، ولقد اهتم الدين الإسلامي إهتمامًا شديدًا بضرورة الوفاء بالمواثيق والعهود دون غش وخداع وأوضح أن المؤمن ذو العقيدة الصحيحة هو من يفي عهده ولا يخش أو يخدع، والتزام كل طرف بما أوجبه الشرع تسهم في تحقيق العدالة، الاستقرار، والبركة في العلاقات والمعاملات.