فقه النوازل المالية | رأي العلماء في حكم التأمين التجاري
إن فقه النوازل المالية هو فرع من فروع الفقه الإسلامي يعنى بدراسة المسائل المالية المستجدة التي لم تكن معروفة في العصور السابقة، ويهدف إلى بيان الحكم الشرعي لها وفق مقاصد الشريعة الإسلامية، وقد برزت الحاجة إليه مع تطور الحياة الاقتصادية وتعدد صور المعاملات المالية، مثل البطاقات البنكية، والأسواق الرقمية، والتأمين، والتجارة الإلكترونية.
يعتمد هذا الفقه على الاجتهاد الجماعي والنظر المقاصدي في ضوء أصول الفقه وقواعده، لتحقيق التوازن بين المحافظة على مقاصد الشريعة وتحقيق مصالح الناس، ويعتبر ضرورة معاصرة لفهم الواقع الاقتصادي وتقديم حلول شرعية تسهم في بناء نظام مالي إسلامي عادل ومتين يتماشى مع تطورات العصر.
فقه النوازل المالية
يعتبر فقه النوازل المالية من أهم فروع الفقه الإسلامي في العصر الحديث، لأنه يتعامل مع القضايا المالية الجديدة التي ظهرت نتيجة للتطورات الاقتصادية والتغيرات في أساليب المعاملات، وتكمن صعوبته في محاولة تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على واقع متجدد، والبحث عن حلول بديلة تتفق مع مبادئ الإسلام، وتساعد المسلمين على ممارسة حياتهم اليومية بسهولة دون مخالفة شرعية.
يشمل هذا الفقه مسائل لم تكن معروفة في عصور الفقه السابقة، مثل النقود الورقية التي حلت محل النقود المعدنية، والشركات المساهمة، وعقود التأمين، وغيرها من المعاملات الحديثة، كما أن تغيّر الظروف والعادات قد يؤدي إلى تغيّر بعض الأحكام، وقد تظهر معاملات قديمة بأسماء جديدة، مما يستدعي من العلماء دراسة هذه الأمور وبيان حكمها الشرعي، كأحكام الفوائد في البنوك التجارية.
أسس البحث في القضايا المعاصرة
إن أسس البحث في القضايا المعاصرة، خاصة في فقه النوازل المالية، تتطلب خطوات دقيقة ومنهجية لضمان الوصول إلى حكم شرعي سليم وموافق لمقاصد الشريعة، وأولى هذه الخطوات هي فهم القضية فهماً دقيقاً وشاملاً، حيث لا يجوز التسرع في إصدار الحكم قبل جمع المعلومات الكافية عن المسألة المستجدة، ومعرفة أسباب ظهورها وسياقها الواقعي، مع الاستعانة بأهل التخصص لتجنب أي لبس أو غموض، لقوله تعالى: “فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون” (النحل: 43).
بعد الفهم الكامل تأتي مرحلة عرض القضية على الأدلة الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية، والرجوع إلى مصادر الحديث مثل صحيح البخاري، وصحيح مسلم، ومسند الإمام أحمد، وسنن الترمذي وأبي داود والنسائي، بحثًا عن ما يشير إلى حكم مشابه، ثم يتم الرجوع إلى كتب الفقه المذهبي، إذ قد تكون هناك مسائل معاصرة شبيهة نوقشت في الماضي، مثل مسألة التأمين التي تناولها الأستاذ مصطفى الزرقا في القرن الثالث عشر الهجري.
كما يمكن الاستفادة من كتب الفتاوى القديمة والمعاصرة، فقد نجد فيها أحكاماً صادرة عن كبار العلماء مثل ابن رشد أو الشيخ محمود شلتوت، كما يعتد بفتاوى المؤسسات الرسمية مثل دار الإفتاء المصرية، وهيئة كبار العلماء في السعودية، ومجلة الأزهر، لما لها من اجتهادات معتبرة تسهم في فهم النوازل الجديدة.
الأحكام الفقهية لعقود البيع بين البنك والبائع
العقود التي تبرم اليوم بين البنوك والعملاء تعد من أبرز صور المعاملات المصرفية الحديثة، ومن أشهرها عقد المرابحة للأمر بالشراء، ويقوم هذا العقد على أن يطلب العميل من البنك شراء سلعة معينة، فيقوم البنك بشرائها أولًا ليملكها، ثم يبيعها للعميل بسعر يشمل تكلفة الشراء مضافًا إليها ربح معلوم ومتفق عليه، ويتم السداد غالبًا بالتقسيط، ويعتبر هذا النوع من البيوع شكلًا من أشكال الاستثمار التجاري المشروع، وقد أصبح معمولًا به في كثير من البنوك الإسلامية كبديل عن القروض الربوية.
هذا العقد يعد من المستجدات المعاصرة، حيث لم يكن معروفًا في صورته الحالية في عصر الاجتهاد الفقهي، بل كان يعرف فقط بـ المرابحة الفقهية التقليدية، والتي تعتمد على البيع بثمن الشراء مضافًا إليه هامش ربح معلوم، دون وجود طرف وسيط كالبنك.
الفرق بين المرابحة الفقهية والمرابحة للأمر بالشراء
تختلف المرابحة الفقهية عن المرابحة للأمر بالشراء من عدة جوانب أساسية، أبرزها في طبيعة العقد وأطرافه وآلية تنفيذه، فالمرابحة الفقهية هي عقد قديم يعود إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم ويتم بين طرفين فقط، هما البائع والمشتري، حيث يشتري البائع سلعة ثم يبيعها للمشتري بثمن يشمل التكلفة وربح معلوم، ويتم غالبًا دفع الثمن مرة واحدة عند التعاقد، أما المرابحة للأمر بالشراء فهي عقد حديث ظهر مع تطور المعاملات المصرفية، ويشمل ثلاثة أطراف: العميل، والبنك، والبائع.
وفي هذا النوع يطلب العميل من البنك شراء سلعة معينة، فيقوم البنك بشرائها لنفسه أولًا، ثم يبيعها للعميل بالتقسيط مع إضافة ربح متفق عليه، كما أن المرابحة الفقهية تعرض البائع للمخاطرة، إذ قد لا يجد من يشتري السلعة، بينما في المرابحة للأمر بالشراء تقل نسبة المخاطرة، لأن البنك لا يشتري السلعة إلا بناءً على طلب العميل، وتظل في حوزته فترة قصيرة فقط قبل بيعها، مما يجعل هذا النوع أكثر أمانًا وتوافقًا مع المعاملات البنكية المعاصرة.
الأحكام الفقهية لعقود التأمين التجاري
يعتبر التأمين عقدًا حديثًا يتم بين طرفين: المؤمن عليه (العميل) وشركة التأمين، حيث يلتزم العميل بدفع مبلغ مالي يعرف بالقسط، مقابل التزام الشركة بتحمل الأضرار أو الخسائر التي قد يتعرض لها المؤمن عليه، وفقًا لشروط العقد، ويتنوع التأمين إلى عدة أنواع بحسب محل التعاقد، من أبرزها:
- التأمين على الحياة حيث يدفع العميل أقساطًا محددة، وفي حال وفاته أو تعرضه لإصابة خطيرة، تقوم الشركة بصرف مبلغ مالي للورثة أو للمؤمن عليه.
- هناك أيضًا التأمين ضد المسؤولية، كأن يقوم صاحب سيارة بالتأمين على مسؤوليته تجاه الغير، فإذا تسببت سيارته في إصابة أحد المارة، تتولى شركة التأمين دفع التعويض.
- كما يوجد التأمين على الأشياء، مثل السلع والبضائع المخزنة، حيث يدفع صاحبها مبلغًا معينًا مقابل ضمان تعويضه من الشركة إذا تعرضت تلك السلع للتلف أو الفقد.
- وتعتمد هذه العقود على مبدأ تقاسم المخاطر، وقد أثارت جدلًا فقهيًا واسعًا بين مؤيدين ومعارضين بحسب نوع التأمين وآلية تنفيذه.
تابع المزيد: فقه معاملات العملات الرقمية
رأي العلماء في حكم التأمين التجاري
سنتعرف على آراء العلماء من خلال الآتي:
الرأي الأول
يرى لا يجوز، أن عقد التأمين يحتوي على غرر فاحش فلا تعرف إن كان المؤمن عليه سيصاب أم لا، كما يرى أن مبلغ التأمين يعتبر بيع دين بدين وهذا لا يجوز، بمعنى أن مبلغ الأقساط التي يدفعها المؤمن عليه هو دين لشركة التأمين في المقابل تدفع الشركة مبلغ تعويض إذا حدث له ضرر وهذا أيضًا يعتبر دين.
الرأي الثاني
يجوز، وقد أجازه أتباع الحنفية هذا العقد قياس على مسألة أجازها الحنفية وهي أن يضمن أحدهم السير في طريق معين مقابل أن يضمن أصابته على الرغم هنا الضامن طرف واحد، في حين في عقد التأمين التزام من الطرفين.
الرأي الراجح
فهو تحريم عقود التأمين التجارية، وذلك لأن من الممكن أن العميل أو المؤمن عليه يعتمد حدوث الضرر، مثل سرقة الأموال أو البضائع المؤمن عليها أو قتل المؤمن عليه للحصول على مبلغ التعويض عن الحياة، وعلاوة على ذلك فقد صدر قرار لمنظمة المؤتمر الإسلامي بتحريم عقود التأمين التجاري وبدلا عنها هو عقد التأمين التعاوني وهو العقد الذي يقوم بالتبرع والتعاون بين أفراد العقد.
لما كان فقه النوازل المالية من أهمية كبيرة في وقتنا الحالي، ويحتاج لجهد كبير لمواكبة التغيرات اليومية في عصرنا الحالي، ولن يحدث ذلك باتحاد المتخصصين من العلماء والمجتهدين لإصدار أحكام للمستجدات تسهل علينا الحياة اليومية حتى لا نخالف الشريعة الإسلامية.